وأعود إلى الأبيات المكسورة، والتي وردت في قصيدة شاعرنا إبراهيم عبدالله مفتاح، يقول شاعرنا:
وطني حضنْتُك في سرّي وفي علني
وطني حياتي ومنْ إلاَّك يا وطني
فيكسر البيت، ويستقيم لو قال:
حضنْته وطني في السر والعلن
أنت الحياة ومنْ إلاّك يا وطني
ونقطع البيت هكذا، وهو من البحر البسيط:
ويقول الشاعر مفتاح:
وطني وعيناك مفتونٌ بهُدْبهما
حِبْري وحرْفي ونبض الروح في بدني
فيكسر الشطر الأول، ويستقيم لو قال:
(عيناك يا وطني هُدْباهما فِتَنٌ)، ونقطع الشطر هكذا:
ويقول الشاعر مفتاح:
وطني تُرابك ذَرّاتٌ تعانقني
وتنثر القُبَل الحرَّى وتُشعلُني
فيكسر الشطر الأول من البيت، ويستقيم لو قال:
(هذا تُرابك ذَرّاتٌ تُعانقني)، ونقطعه هكذا:
ويقول الشاعر مفتاح:
وطني سأبحث عن بحر وقافية
ولوْن طيْف برؤياه تُكحّلُني
فيكسر الشطر الأول من البيت، ويستقيم لو قال:
(إني سأبحث عن بحر وقافية) ونقطعه هكذا:
ويقول الشاعر مفتاح:
وطني سأبحث عن لحنٍ أغازله
وأنملٍ في سنا عينيك تغزلني
فيكسر الشطر الأول من البيت، ويستقيم لو قال:
(إني سأبحثُ عن لحنٍ أغازله) ونقطعه هكذا:
ويقول الشاعر مفتاح:
وطني على شفتي نارٌ وأدخنةٌ
من السُؤالات أنَّى رحْتُ تُلْهبُني
فيكسر الشطر الأول من البيت، ويستقيم لو قال:
(نارٌ وأدخنةٌ أمْستْ على شفتي)، ونقطعه هكذا:
وأتجاوز عن الجمع للسؤال (سؤالات). والسؤال في اللغة العربية: طلب الصدقة، والحديث الشريف: “نهى عن كثرة السؤال”، ثم أطلقه المتأخرون لما يطلب من طالب العلم الإجابة عنه في الاختبار، وفي غيره من الأسئلة. والسؤال جمعه: أسئلة، ولا يجمع على سؤالات. ويقول الشاعر مفتاح:
وطني لعينيك أسرجتُ المنى سحراً
إذْ عسعس الليلُ أمناً في سُرى سفُني
فيكسر الشطر الأول من البيت، ويستقيم لو قال:
“أسْرجْتُ يا وطني كل المنى سحراً”، ونقطعه هكذا:
ويقول الشاعر إبراهيم مفتاح:
وطني يذوب الهوى في كاحلي لغة
وبين جنبيَّ في صحوي وفي وسَني
فيكسر الشطر الأول من البيت، ويستقيم لو قال:
“ذاب الهوى وطني في كاحلي لغةً”. ونقطعه هكذا:
والبحر البسيط، بحر قصيدة الشاعر إبراهيم مفتاح، هو من دائرة المختلف، لاشتمالها على الطويل والبسيط اللذين هما أشرف من سائر البحور لطولهما وحُسن ذائقتهما وكثرة ورودهما في أشعار العرب، كما صرّح بذلك علماء العروض. يقول أبو العلاء المعري (رحمه الله): “إن أكثر أشعار العرب من الطويل والبسيط والكامل، ومن تصفح أشعارهم وقف على صحة ذلك” انتهى.. والبحر البسيط، يدخله الزحاف، فتصير (مستفْعلنْ): متفْعلنْ) وتنقل إلى (مفاعلنْ)، ويسمَّى (خبْناً)، وهو زحاف مستحسن، وتصير (مسْتفْعلنْ): (مسْتعلنْ)، وتنقل إلى (مفْتعِلنْ)، ويسمَّى (طيّاً). وتصير (مستفْعلنْ): (متَعِلنْ) وتنقل إلى (فعِلتُنْ) ويسمَّى (خبْلاً). والمخبول: ما سقط ثانيه ورابعه الساكنان. ويجوز في (فاعلنْ) الخبن ، فتصير (فعِلنْ) بتحريك العين. ويجوز في عروضه المجزوْة المقطوعة (مفْعولنْ) الخبن، فتصير: (معولن)، وتنقل إلى (فعولنْ)، ويجوز أيضاً في ضربها المجزوء المقطوع.
والبحر البسيط وزنه:
مسْتفعْلنْ/ فاعلنْ/ مسْتفْعلنْ/ فاعلنْ/. مرتان، والتفعيلة الأخيرة، أي تفعيلة الضرب، لا ترد في الشعر العربي (فاعلنْ)، وإنما ترد مخبونة (فعِلن) بتحريك العين، إلاَّ إذا كان البيت مصرَّعاً، فتأتي (فاعلنْ) والضرب في البحر البسيط يأتي (فعِلنْ) بتحريك العين، أو (فعْلنْ) بتسكين العين، وسأتحدث عن البحر البسيط، موضحاً عروضه وأضربه، وما يجوز فيهما، وعن شواذ هذا البحر، وعن مخلّع البسيط وعن مجزوئه، في الجزء الثاني من كتابي (ما هكذا يكتب الشعر) الذي سيصدر (إن شاء الله) قريباً ..
ويدخل (الطيّ) البحر البسيط، كما أشرتُ إليه آنفاً، ولكنني لا أرتاح إليه إذا جاء الطيُّ في أول البيت، اقرأ معي قول الأعشى من معلقته:
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحِلُ
تسمعُ للحلي وسواساً إذا انصرفت
كما اسْتعان بريحٍ عِشْرقٌ زجِلُ
فتصطدم موسيقى البيت الثاني بأذن القارئ ذي الذائقة الشعرية، فلا تستريح أذنه بسماعه. ولو جاء البيت هكذا:
للحلْي تسمعُ وسْواساً إذا انصرفتْ
كما اسْتعان بريح عشْرقٌ زَجِلُ
ونقطعه هكذا:
ورواية البيت الثاني من معلقة الأعشى: تسمعُ للحلْي، من خطأ الرواة الذين يعتمدون على الحافظة والذاكرة، وفيهم من انتحل الأشعار، ونسبها إلى غير أصحابها. وجاء الخليل بن أحمد (رحمه الله)، واستنبط علم العروض من تلك الأشعار القديمة، ووضع لها القواعد. وقد تجنب الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي (رحمه الله) العلل التي تلحق الشعر كما أشرْتُ إليه آنفاً. وماذا يكون حال الشعر، لو لم يضع الخليل بن أحمد أوزانه وقواعده، وبحوره وزحافاته وعلله؟.
يقول شيخنا وأستاذنا الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر:
“وإذا لم يكن بعض الشعراء قد استفاد من الأوزان، كما وضعها الخليل بن أحمد، وسعيد بن مسعدة (الأخفش الأوسط)، فإنه عند النزاع والحجاج والاعتراض، لن يجد أي منهم ميزاناً يبين الصواب من الخطأ، غير هذا الميزان، والفضل لا يتبيّن بوجود هذا العلم، وما جاء فيه من استقصاء، ولكن في عدم وجوده، إذا لم يكن موجوداً، وكيف كانت حال الناس، لو أُهمل هذا الجانب، ولم يُنتبه له حينئذ”.
انتهى ما قاله استاذنا الخويطر.. والأعشى، واسمه: ميمون بن قيس بن بكر بن وائل، أدرك الإسلام، وولد في (منفوحة) باليمامة. وأجمع مؤرخو الأدب العربي على تسميته بصنّاجة العرب، لمتانة شعره. وقد عد الإمام يحيى بن علي التبريزي (رحمه الله) قصيدته اللامية من أبدع القصائد العربية. وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه (الأغاني)، عن الشعبي، أنه قال: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، والكل من قصيدته اللامية، أما الأول، فقوله: “غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضها”، وأما الثاني، فقوله:
قالت هريرةُ لمّا جئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يا رجُلُ
وأما الثالث، فقوله:
قالوا الطّراد فقلنا تلك عادتُنا
أوتنزلون فإنا معشر نُزُلُ
وقد تكلم واستشهد بهذا البيت: قالوا الطّراد .. علماءُ النحو واللغة كالخليل بن أحمد وسيبويه والتبريزي، في باب إعراب الفعل، وفي جمع التكسير فليراجعه من شاء من القراء الكرام..
والشيء يذكر بالشيء.. روتْ كتب الأدب: أن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، دعا بنيه: الوليد وسليمان ومسلمة، فاستقرأهم فقرءوا، واستنشدهم فأنشدوا أشعاراً، فقال عبدالملك (رحمه الله): عليكم بشعر الأعشى، فإنه أخذ في كل فن فأحسن، ولم يمدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه .. ثم أخذ الخليفة عبدالملك يشرح لأبنائه محاسن شعر هذا الشاعر الكبير.
وفي شعر الأعشى شعر مصنوع.. روى أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه (الأغاني): أن بشاراً بن برد، سمع هذا البيت من شعر الأعشى، من أحدهم:
وأنكرتْني وما كان الذي نكرتْ
من الحوادث إلاّ الشيْبَ والصلعا
فأنكر بشار البيت، وقال: هذا بيت مصنوع، ما يشبه كلام الأعشى، وكان أبو عبيدة حاضراً، يسمع ما قاله بشار، فعجب لذلك.. فلما كان أبو عبيدة جالساً عند يونس بن حبيب، وقد مضت عشر سنين، فقال الإمام يونس بن حبيب: حدثني أبو عمر بن العلاء، أنه صنع هذا البيت، وأدخله في شعر الأعشى. فيزداد أبو عبيدة عجباً من فطنة بشار، وصحة قريحته، وجودة نقده للشعر.. وكان الأصمعي يقول: بشار خاتمة الشعراء..
وأعود إلى زحاف (الطيّ)، والذي يدخل البحر البسيط، ويجيزه علماء العروض، إلاَّ أني أرى أنه يُحدث اضطراباً في الإيقاع إذا دخل أول البيت من الشطر الأول، أو من الشطر الثاني، وقد مثلتُ لذلك ببيت للأعشى، دخل الطيّ في أوله، فغيَّر إيقاع البيت.
واقرْأ معي أيها القارئ الكريم هذا البيت لذي الأصبع العدواني:
ليَ ابْن عم على ما كان من خُلُق
مختلفان فأقْليه ويقليني
فتجد اضطراب النغم واضحاً في (مختلفان) لدخول الطيّ عليها.
ولو قال ذو الإصبع العدواني:
لي ابنُ عمّ على ما كان من خُلق
إن نختلفْ أقْله يوماً ويقليني
فيسلم الشطر الثاني من الطيّ، وقد جزمتُ الفعل (أقْله) بحذف الياء جواباً لفعل الشرط (إنْ نختلفْ)، ولم أجزم الفعل المضارع (يقليني)، بل تركته مرفوعاً على الاستئناف، ولم ألتفت إلى عطفه على ما قبله وهو الفعل المضارع المجزوم، وله شواهد في النحو.. وقد تكلمتُ في الحلقة الأولى من هذه المقالة عن الخزْم – بالخاء المعجمة والزاي – وهو زيادة حرف إلى أربعة أحرف، في الشطر الأول من البيت الشعري، وقد تكون هذه الزيادة في أول الشطر الثاني، ولكن هذه الزيادة إذا حُذفتْ، لا تؤثر على معنى البيت. واقرأ معي هذا البيت:
يا مطربْنَ خارجة بن مسْلمَ إنني
أُجْفى وتُغلقُ دونيَ الأبوابُ
فزاد الشاعر حرفين (يا) في أول البيت، ولو حذفهما لبقي المعنى مستقيماً، وهناك شواهد من الشعر، زاد الشاعر حرفاً أو ثلاثة أحرف في أول البيت، ولكن هذه الزيادة إذا حُذفتْ، لا تؤثر على معنى البيت، ويبقى المعنى سليماً، يقول ابن رشيق القيرواني، في كتابه (العمدة) ج(1) ص 141من طبعة الشيخ محيي الدين عبدالحميد: (وليس الخزم عندهم بعيب، لأن الشاعر يأتي بالحرف زائداً في أول الوزن، وربما جاء بالحرفين والثلاثة، ولم يأتوا بأكثر من أربعة أحرف إذا سقط أحد الحروف أوكلها لم يفسد المعنى ولا أخلّ به ” انتهى ما قاله ابن رشيق.
والأبيات التي جاءت مكسورة في قصيدة الشاعر إبراهيم عبدالله مفتاح، جاء كسرها بسبب زيادة حرف في أول البيت، وزيادة حرف في أول الشطر الثاني من أحد أبيات القصيدة، وهذا الحرف الزائد هو (الواو) من (وطني) فهل يجوز لنا أن نقول (طني) ليستقيم الوزن، ولا علينا إذا أفسدنا المعنى،وأما (وطني حضنت) إذا قطعناها فإنها ستصير (متَفاعِلن) من البحر الكامل سؤال أوجهه إلى علماء العروض المعاصرين من أبنائنا، وهم الأساتذة الدكاترة: عياد عيد الثبيتي، وعبدالمحسن القحطاني، وصالح جمال بدوي، وعبدالهادي الفضْلي، الذين التزموا الصمت وتركوني في الساحة وحيداً، وأنا رجل (يَفَنْ) تعديتُ الثمانين من عمري. فسامحهم الله.
——————
ذكر الأستاذ أن (وطني = 1 3 = وَمُتَفْ) تزيد حرفا عن ( طني = 3 = مُتَفْ )، ولو جازت ( طني ) لصح القول. هذا وجه
والوجه الآخر أن ( وطَني = 1 3 = مُتَفا ) وهذه إن تبعها وتد فاصلةلا تدخل البسيط كما لاتدخل أي بحر فيه 2 3 ولو جاز تسكين طاء ( وطني ) لتصبح (وطْني = 2 2 = مستف ) لصح الوزن.