الرئيسية / قصص وروايات / قصة مذكرات رجل مخابرات بقلم د.نبيل فاروق

قصة مذكرات رجل مخابرات بقلم د.نبيل فاروق

أنا رجل مخابرات..

واحد من آلاف، في كل أنحاء الأرض، ينتمون إلى عالم خاص ..

خاص جدًا ..

عالم سري، غامض، لا مكنك أن تتجاوز الأسوار المحيطة به قط ..

لا يهم من أنا ..

ما جنسيتي ..

أو إلى أية دولة أنتمى ..

فالقواعد واحدة، في كل الأحوال ..

القواعد اللازمة لتصنع رجل مخابرات ..

رجل يمكنه أن يصنع من نفسه درعًا، لحماية دولة بأكملها ..
إذا ما استلزم الأمر ..

ولا تتصور حتى أن مذكراتي هذه قد تصنع منك ذلك الرجل ..

فمهما حوت، لن تتجاوز كونها مجرد كلمات ..

مجرد مذكراترجل ..

مخابرات.

1- البداية:

لست أدرى أية نقطة، ينبغي اعتبارها بداية كل شئ !

أية مرحلة في حياتي، يمكن اعتبارها لحظة تكوني الحقيقية كرجل مخابرات ..

أهى تلك الأيام في حداثتي، التي كنت أطالع فيها روايات الجاسوسية بمنتهى الشغف، والتي كنت أقف خلالها في طابور طويل، أمام دار العرض السينمائي، القريبة من منزلي؛ لمشاهدة أحدث أفلام ذلك العميل السري البريطاني الشهير، الذي كنا نتابع صراعاته العنيفة في انبهار، وهو يخوض عشرات المعارك على الشاشة، مع أشرار من كل نوع، يسعون للسيطرة على العالم، وكأن السيطرة على دولة واحدة، أو حتى قارة كاملة، ليست حلم العباد أو غاية المراد ..

في تلك الفترة، تصورت أن هذا هو عالم المخابرات ..

مواجهات، وصراعات، وحسناوات، ورصاصات، ومطاردات، وانفجارات، وأطنان من النيران، تملأ حياة البطل، حتى كلمة النهاية، دون أن تلسعه شرارة واحدة منها ..

وكما يحدث لكل من في مثل سني - آنذاك - رحت أسأل الكبار في حماسة عن كيفية انضمامي إلى ذلك العالم المثير، والكل إما أن يبتسم ساخرًا، أو مشفقًا، أو يجيبني إجابات باهتة، غامضة، مبهمة، زادتني غضبًا وحماسة، ولهفة إلى ذلك العالم المبهر ..

ثم تقدم بي العمر، وبدأ اهتمامي بروايات وأفلام الجاسوسية يقل، مع مولد اهتمامات أخرى، وتفاصيل حياتية مختلفة، حتى لم أكد أنتهى من المرحلة الثانوية، إلا وقد فتر اهتمامي بهذا الأمر تمامًا ..

أو هكذا تصورت ..

فجزء ما من أعماقي، كان يحمل تلك الرغبة، في جزء دفين من عقلى الباطن، لم أشأ الاعتراف به أبدًا، على الرغم من أنني قد بذلت جهدًا خرافيًا، لإقناع والدي بقبول التحاقي بإحدى الكليات العسكرية، بدلا من الكلية المرموقة، التي تمنت والدتي دومًا التحاقي بها، متصورة أنها ستقودني إلى مستقبل لامع، شبيه بمستقبل خالها، الذي تملأ أخباره الصحف والمجلات، وتطالعنا صورته كل حين وآخر، على شاشة التلفاز، ليتحدث برصانة عن آخر وأحدث الكشوف العلمية والطبية ..

ولم يكن الأمر سهلا ..

ولكنني، والحق يقال، قاتلت بكل قوتي ..

وبكل ذكائي أيضًا ..

فبطبيعة شخصيتي، كنت أدرك أنه من المستحيل أن تهزم الأفكار بالقوة ..

مهما كانت الأفكار ..

ومهما بلغت القوة ..

وعلى الرغم من معارضة والدي الشديدة، وغضب أمي العنيف، انتهت المعركة لصالحي، وخاصة بعد نجاحي في تجاوز الكشوف والفحوص الطبية والرياضية اللازمة، وقبول التحاقي بتلك الكلية العسكرية ..

ورفضت أمي توديعي، وأنا في طريقي، إلى يومي الأول بالكلية، في حين ابتسم أبي ابتسامة باهتة، وهو يتمنى لي التوفيق فيما اخترت.

وكانت البداية ..

أو يمكننا اعتبارها البداية الثانية، التي راودني شعور عجيب، وأنا أتجه إليها، بأنها ستغير حياتي كلها .. تمامًا ..

والواقع أن كل ما تلا هذا كان يؤكد أنني لم أٌخلق إلا لهذا النوع من الحياة ..

لقد توافقت بسرعة، مع طبيعة الحياة العسكرية الصارمة في الكلية، وتعايشت معها على نحو أدهش رؤسائي قبل زملائي، بل ورحت أتطور فيها بسرعة ملفتة للنظر ..

ملفتة للنظر بحق، وليس كتعبير مجازي ..

وهذا ما أدركته فيما بعد ..

وفي أول إجازة لي، استقبلتني أمي بكل لهفة الدنيا وشوقها، وغمرتني بأطنان من حبها وحنانها واهتمامها، على نحو جعلني أدرك أن غيابي قد فاق غضبها وانتصر عليه، وأنها قد استسلمت أخيرًا لاختياري ..

ولا يمكنكم أن تتصوروا كم ملأ هذا نفسي بارتياح غامر، جعلني أنام ملء جفنىَّ، في كل ليلة احتواني فيها فراشي القديم ..

ولكن المدهش أنني، وعندما حان موعد عودتي إلى الكلية، كنت عائدًا إليها بشوق عجيب، كما لو أنني قد ارتبطت بتلك الحياة ارتباطًا وثيقًا، تغلغل في كياني، وجرى في عروقي مجرى الدم ..

ومع مرور الأيام والأسابيع والشهور، كان ارتباطي بالحياة العسكرية يتضاعف أكثر وأكثر، وتفوقي في المجالات الرياضية يلفت الانتباه، مع شهادة التقدير التي حصلت عليها، في مجال الرماية ..

وعلى الرغم من هذا التفوق، كانت لدى اهتمامات أخرى، لا يشاركني فيها سوى قلة نادرة من الزملاء، مثل تعلم اللغات وبعض المهارات البسيطة، في أوقات الفراغ وساعات الراحة ..

وكان هذا أيضًا معروفًا ..

وملحوظًا ..

لم أكن أدرى أيامها أن مراحل التقييم تبدأ، من هذه الفترة المبكرة، وأنه هناك عيون ترصد لمحات التفوق، في كل المجالات ..

وكل الكليات ..

فلا أحد يخبرك، أو ينبهك، أو حتى يبدي اهتمامه في وضوح ..

كل شئ يتم بدقة، وحرفية، ومهارة مدهشة، تفوق بكثير ما كنا نراه على الشاشة في حداثتنا …

المهم أن أعوام الكلية قد انقضت بسرعة، وبدأت عملية توزيعنا على أفرع الجيش المختلفة وفقًا لمهاراتنا، وقدراتنا، وأمور أخرى عديدة، لم يتم الإفصاح عنها قط في حينها ..

وعلى الرغم من هذا، فقد استدعاني مدير الكلية، قبيل حفل التخرج ببضع ساعات، واستقبلني بابتسامة هادئة في مكتبه، وهو يسألني:
- هل تعلم إلى أى سلاح سيتم توزيعك؟!

لم أشعر بالارتياح للسؤال، خاصة وأنه كان هناك رجل في ثياب مدنية، يجلس على المقعد البعيد، في نهاية الحجرة، ويتطلع إلىَّ في اهتمام هادئ، إلا أنني، وعلى الرغم من كل شئ شددت قامتي، مجيبًا بلهجة عسكرية قوية:
- إلى القوات الخاصة.

لاحظت اتساع ابتسامة المدير، وتلك النظرة التي تبادلها مع ذلك المدني، والتي لم تستغرق سوى ثانية واحدة، قبل أن يسألني مرة أخرى:
- ولماذا توقعت هذا؟!

أجبت في سرعة:
- بسبب التكوين الجسماني، والتفوق الرياضي، ووسام الرماية.

تراجع المدير في مقعده، وشبك أصابع كفيه أمام صدره، في شئ من الزهو، في حين أومأ المدنى برأسه، متمتمًا:
- عظيم.

وأمرني المدير بالعودة إلى ثكنتي، دون أن يشرح لي سبب أسئلته، وتركني في حيرة من أمري، وأنا أتساءل: لماذا لم يحدث هذا لغيري؟!

ثم لماذا يحدث؟!

ولم أجد جوابًا لسؤالي هذا ..

أى جواب !!

ولقد تم توزيعي في القوات الخاصة بالفعل ..

وفي منطقة نائية بعيدة أيضًا ..

ولقد انزعجت والدتي بشدة، مع بعد المسافة، واقترابها من الحدود، في الوقت الذي يلوح فيه شبح الحرب على الأبواب، ولكنني ابتسمت لها، وهدأت من روعها، وأخبرتها أنها مجرد فترة محدودة، أعود بعدها إلى العاصمة ..

وعلى الرغم من أنني كنت أجهل كل المعلومات، إلا أنني لم أكن كاذبًا ..

فمهما طال بقائي في القوات الخاصة، عند خط المواجهة، فهى فترة محدودة حتمًا .. فترة تنتهى بانتقالي ..

أو حتى بمصرعي ..

أما عن عودتي إلى العاصمة، فقد تصورت أيامها أنه لابد من دفني فيها، في حالة مقتلي، باعتباري من أبنائها ..

مجرد تصور ..

وعند خط المواجهة، كانت التدريبات أكثر قوة ..

وأكثر عنفًا ..

وأكثر تطورًا ..

وكانت هناك مناوشات، بيننا وبين العدو ..

مناوشات بسيطة أحيانًا ..

وعنيفة معظم الوقت ..

وبينما تتطور الأمور، وتشتعل أكثر وأكثر، فوجئت بإشارة عاجلة، تطلب مني العودة إلى العاصمة فورًا ..

ودون توضيح الأسباب ..

وعلى الرغم من عدم ارتياحي لترك خط المواجهة، في ظروف كهذه، كان من المحتم أن أطيع الأوامر، دون أية مناقشة ..

لذا، فقد سافرت فورًا على العاصمة ..

وفي مكان تم تحديده بأسلوب معقد، لم يمكنني هضمه، التقيت بذلك المدنى نفسه، الذي رأيته في مكتب مدير الكلية العسكرية، منذ ما يقرب من العام ..

كان يجلس وحده، في حجرة واسعة كبيرة، لا تحوى سوى مكتب قديم، خلفه مقعد من الخشب، أشبه بتلك المقاعد التي نراها في مشارب الطرقات، وأمامه مقعد من الطراز نفسه، أشار إليه المدني، وهو يقول في هدوء، لم يخل من صرامة حازمة:
- اجلس أيها الضابط.

جلست أمامه مشدود القامة، كما علمونا في الكلية العسكرية، ولكنه ابتسم، قائلا بنفس الهدوء:
- يمكنك أن تسترح.

كان مطلبًا عسيرًا، في تلك الظروف، التي لم أشعر فيها بالارتياح أبدًا، وأنا أبذل جهدًا مضنيًا؛ للسيطرة على توتري وأعصابي، مع ذلك الصمت المطبق، الذي لذت به، حتى سألني ذلك المدني، وهو يتأملني في اهتمام:
- هل يروق لك عملك؟!

أجبته في حذر:
- بالتأكيد.

سألني:
- لماذا؟!

أدهشني سؤاله، على الرغم من مباشرته وبساطته، وجعلني ألوذ بمزيد من الحذر، وأنا أجيب في تحفظ:
- إنه وسيلة لخدمة الوطن، في مثل هذه الظروف.

تراجع في مقعده، وهو يسألني:
- أكل ما يهمك هو أن تخدم وطنك؟!

بلغ حذري مبلغه، وأنا أجيب:
- إنني أحب عملي.

قال في سرعة:
- نعلم هذا.

أدهشتني، وضاعفت من توتري، صيغة الجمع التي استخدمها، والسرعة التي نطق بها كلماته، فانعقد حاجباى في شدة، جعلته يبتسم ابتسامة خفيفة، تلاشت في سرعة، وهو يقول:
- إننا نتابعك منذ فترة .. من قبل حتى أن تحمل أول رتبة عسكرية على كتفيك.

رددت في دهشة عصبية:
- تتابعونني؟!

أومأ برأسه إيجابًا، فهتفت:
- ومن أنتم بالضبط؟!

تطلع إلىَّ طويلا في صمت، وكأنه يتعمد أن يثير توتري إلى أقصى حد؛ كوسيلة لدراسة ردود أفعالي، قبل أن يعتدل في مقعده، قائلا:
- إننا نعرض عليك العمل معنا.

قلت، في مزيج من الحذر والتوتر والدهشة:
- معكم؟!؟ ولكنني ضابط بالجيش، وواجبي أن ….

قاطعني في حزم صارم:
- واجبك سيظل كما هو .. فقط ستتغير الوسيلة، التي تقدمه للوطن بها.

ثم مال نحوي أكثر، وحمل صوته طنًا من الحزم والعزم، وهو يتطلع إلى عينىَّ مباشرة، مستطردًا:
- ستظل تقاتل العدو، ولكن ليس بسلاحك وعضلاتك.

ورفع سبابته؛ ليشير إلى رأسه، مضيفًا:
- بل بعقلك.

الطريقة التي نطق بها الكلمة الأخيرة، جعلت تيارًا كهربيًا قويًا يسرى في كياني، وجعلتني أنتفض في مقعدي، وأنا أهتف، بكل حماسة الدنيا:
- حياتي فداء للوطن.

تألقت عيناه، وهو يتراجع مرة أخرى في مقعده، وقفزت إلى شفتيه ابتسامة، استقرت لشعر ثوان كاملة هذه المرة، قبل أن يستعيد هدوءه الصارم الحازم، وهو يفتح درج المكتب القديم، ويلتقط منه عدة ورقات مطبوعة، وضعها مع قلم حبر أمامي، وهو يقول:
- قم بملء كل البيانات .. وبمنتهى الدقة.

وعلى الرغم من أنني لم ألق المزيد من الأسئلة، فقد التقطت القلم والأوراق في حماسة وحزم، و …

وكانت هذه هى البداية ..

الحقيقية.

“بقلم/د.نبيل فاروق”

عن دليلي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *